سورة سبأ - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}
{ياجبال} إمّا أن يكون بدلاً من {فَضْلاً}، وإمّا من {ءاتَيْنَا} بتقدير: قولنا يا جبال. أو: قلنا يا جبال. وقرئ: {أوّبي} و {أوبي} من التأويب. والأوب: أي رجعي معه التسبيح. أو ارجعى معه في التسبيح كلما رجع فيه؛ لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه: ومعنى تسبيح الجبال: أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحاً كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح: معجزة لداود. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. وقرئ: {والطير}، رفعاً ونصباً، وعطفاً على لفظ الجبال ومحلها. وجوّزوا أن ينتصب مفعولاً معه، وأن يعطف على فضلاً، بمعنى وسخرنا له الطير.
فإن قلت: أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال: {ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما. ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى: من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذي إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا: إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} وجعلناه له ليناً كالطين والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة. وقيل: لأن الحديد في يده لما أوتي من شدّة القوّة {أن اعمل سابغات} وقرئ: {صابغات} وهي الدروع الواسعة الضافية، وهو أوّل من اتخذها وكانت قبل صفائح. وقيل: كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله، ويتصدّق على الفقراء. وقيل: كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكراً، فيسأل الناس عن نفسه، ويقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه، فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود، فسأله؟ فقال: لولا أنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع {وَقَدَّرَ في السرد} لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق، ولا غلاظاً فتفصم الحلق. والسرد: نسج الدروع {واعملوا} الضمير لدواد وأهله {و} سخرنا {لسليمان الريح} فيمن نصب: ولسليمان الريح مسخرة، فيمن رفع، وكذلك فيمن قرأ: الرياح، بالرفع {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك. وقرئ: {غدوتها وروحتها}.
وعن الحسن رضي الله عنه: كان يغدو فيقيل باصطخر، ثم يروح فيكون رواحه بكابل. ويحكى أنّ بعضهم رأي مكتوباً في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنياً وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله.
القطر: النحاس المذاب من القطران.
فإن قلت: ماذا أراد بعين القطر؟ قلت: أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله كما ألان الحديد لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين؛ فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال: {إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وقيل: كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام {بِإِذْنِ رَبّهِ} بأمره {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ} ومن يعدل {عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان. وقرئ: {يزغ} من أزاغه. وعذاب السعير: عذاب الآخرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن السدي: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني. المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال: سميت محاريب لأنه يحامي عليها ويذب عنها. وقيل: هي المساجد والتماثيل: صور الملائكة والنبيين والصالحين، كانت تعمل فيه المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم.
فإن قلت: كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت: هذا مما يجوز أن تختلف في الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب، وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّماً. ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها؛ لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان. أو تصوّر محذوفة الرؤوس.
وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. والجوابي: الحياض الكبار، قال:
تَرُوحُ عَلَى آل الْمُحَلِّقِ جَفْنَةٌ *** كَجَابِيَةِ السَّيْحِ العِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
لأنّ الماء يجبى فيها، أي: يجمع. جعل الفعل لها مجازاً وهي من الصفات الغالية كالدابة. وقيل: كان يقعد على الجفنة ألف رجل. وقرئ: بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. كقوله تعالى: {يَوْمَ يدعالداع} [القمر: 6]. {راسيات} ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها {اعملوا ءَالَ دَاوُودَ} حكاية ما قيل لآل داود. وانتصب {شُكْراً} على أنه مفعول له، أي: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر. أو على الحال، أي: شاكرين. أو على تقدير اشكروا شكرا، لأن اعملوا فيه معنى اشكروا، من حيث إنّ العمل للمنعم شكر له. ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولاً به. ومعناه: إنا سخّرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكراً على طريق المشاكلة و{الشكور} المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه: قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً، وأكثر أوقاته.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ من يشكر على أحواله كلها.
وعن السدي: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر.
وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلاّ وإنسان من آل داود قائم يصلي.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: اللَّهم اجعلني من القليل، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إني سمعت الله يقول: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر.


{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}
قرئ: {فلما قضى عليه الموت} ودابة الأرض: الأرضة، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها، فأضيفت إليه. يقال: أرضت الخشبة أرضاً. إذا أكلتها الأرضة. وقرئ بفتح الراء، من أرضت الخشبة أرضاً، وهو من باب فعلته ففعل، كقولك: أكلت القوادح الأسنان أكلاً. فأكلت أكلاً والمنسأة: العصا. لأنه ينسأ بها، أي: يطرد ويؤخر وقرئ: بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً وكلاهما ليس بقياس، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي. ومنساءته على مفعالة، كما يقال في الميضأة ميضاءة. ومن سأته، أي: من طرف عصاه، سميت بسأة القوس على الاستعارة. وفيها لغتان، كقولهم: قحة وقحة، وقرئ: {أكلت منسأته} {تَبَيَّنَتِ الجن} من تبين الشيء إذا ظهر وتجلّى. و{أَن} مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال، كقولك: تبين زيد جهله: والظهور له في المعنى، أي: ظهر أنّ الجن {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب} أو علم الجن كلهم علماً بيناً- بعد التباس الأمر على عامّتهم وضعفتهم وتوهّمهم- أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب أو علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله بقولك: هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبيناً. وقرئ: {تبينت الجن} على البناء للمفعول، على أنّ المتبين في المعنى هو {أَن} مع ما في صلتها، لأنه بدل. وفي قراءة أبيّ: تبينت الإنس.
وعن الضحاك: تباينت الأنس بمعنى تعارفت وتعالمت. والضمير في {كَانُواْ} للجن في قوله: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} أي علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب؛ ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب}. روي أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله، فيسألها: لأي شيء أنت؟ فتقول لكذا، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة، فسألها، فقالت: نبت لخراب هذا المسجد: فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له وقال: اللَّهم عم عن الجن موتي، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون الغيب، وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة؛ فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئاً على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها؛ وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلّى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلاّ احترق فمرّ به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر فإذا سليمان قد خرّ ميتاً، ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقداراً، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حياً، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة، وروي أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه، ليبطل دعواهم علم الغيب.
روي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها؛ فلم يجسر أحد بعدُ أن يدنوا منه، وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة: ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقي في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.


{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}
قرئ: {لِسَبَإٍ} بالصرف ومنعه، وقلب الهمزة ألفاً. ومسكنهم: بفتح الكاف وكسرها، وهو موضع سكناهم، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها، أو مسكن كل واحد منهم. وقرئ: {مساكنهم} و{جَنَّتَانِ} بدل من آية. أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره: الآية جنتان. وفي الرفع معنى المدح، تدلّ عليه قراءة من قرأ: {جنتين}، بالنصب على المدح.
فإن قلت: ما معنى كونهما؟ آية، قلت: لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية، وإنما جعل قصتهما، وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما، وأبدلهم عنهما الخمط والأثل: آية، وعبرة لهم، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم. ويجوز أن تجعلهما آية، أي: علامة دالة على الله، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره، فإن قلت: كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت: لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها. كأنها جنة واحدة، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال: جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب {كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ} إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ولما قال: {كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ} {واشكروا لَهُ} أتبعه قوله: {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} يعني: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر {طَيّبَةً} لم تكن سبخة. وقيل: لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية. وقرئ: {بلدة طيبة ورباً غفوراً} بالنصب على المدح.
وعن ثعلب: معناه اسكن واعبد {العرم} الجرذ الذي نقب عليهم السكر، ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقاً على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم، فلما طغوا قيل: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبياً يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدّهم الخُلد فنقبه من أسفله فغرّقهم. وقيل: العرم جمع عرمة، وهي الحجارة المركومة. ويقال للكدس من الطعام، عرمة: والمراد: المسناة التي عقدوها سكراً: وقيل: العرم اسم الوادي، وقيل: العرم المطر الشديد.
وقرئ: {العرم} بسكون الراء.
وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقرئ: {أكل} بالضم والسكون، وبالتنوين والإضافة، والأكل: الثمر. والخمط: شجر الأراك: وعن أبي عبيدة: كل شجر ذي شوك. وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعماً من مرارة، حتى لا يمكن أكله. والأثل: شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً. ووجه من نون: أن أصله ذواتي أكل أكل خمط. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذواتي أكل بشع. ومن أضاف وهو أبو عمر وحده، فلأن أكل الخمط في معنى البرير، كأنه قيل: ذواتي برير. والأثل والسدر: معطوفان على أكل، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له. وقرئ: {وأثلاً} وشيئاً. بالنصب عطفاً على جنتين. وتسمية البدل جنتين، لأجل المشاكلة وفيه: ضرب من التهكم.
وعن الحسن رحمه الله: قلل السدر: لأنه أكرم ما بدلوا. وقرئ: {وهل يجازي} و {هل نجازي} بالنون. و {هل يجازي} والفاعل الله وحده. و {هل يجزي}؛ والمعنى: أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلاّ الكافر، وهو العقاب العاجل، وقيل: المؤمن تكفر سيآته بحسناته، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء، ووجه آخر: وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، يستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله: {جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ} بمعنى: عاقبناهم بكفرهم. قيل: {وهل يجازى إلا الكفور} بمعنى: وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح؛ وليس لقائل أن يقول: لم قيل: وهل يجازى إلاّ الكفور، على اختصاص الكفور بالجزاء، والجزاء عام للكافر والمؤمن، لأنه لم يرد الجزاء العام، وإنما أراد الخاص وهو العقاب، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه. ألا ترى أنك لو قلت: جزيناهم بما كفروا، وهل يجازى إلاّ الكافر والمؤمن: لم يصحّ ولم يسد كلاماً، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8